من بلاد التفّاح إلى بلاد الكرمة

  في 4 أيلول 1934 - بوليني -

نيمّـــــــم أطراف البلاد فتـارة     إلى شرقها الأقصى وطورًا إلى الغرب

   هذا بيت من الشعر كان يردّده أديبنا الكبير والرحّالة الشهير "المسعوديّ" في القرن التاسع. أليس من التطفّل التمثّل "بالمسعوديّ" الذي كان يطوف البلاد شرقها وغربها وله غاية معلومة وهدف محدود يدرس طبائع الناس ويكتب غرائب الأحاديث والقصص ويصف ما يشاهده من جبال ووديان ومياه وشجر. هي الصدفة وحبّ النزهة والحاجة التي قادتني أن أتعرّف على جزء من البقاع الفرنسيّة الجميلة من شاطئ "المانش" إلى جبال "الجورا" من الساحل إلى السهول الرحبة الخصبة إلى الجبال المملوءة بسحر الجمال الطبيعيّ.

   في التاسع من شهر آب من هذه السنة، قصدت "نورماندي" غربيّ "باريس" لزيارة الأستاذ الشيخ "ديمسن" كأوّل مرحلة من رحلتي القصيرة التي لخّصت في دفتر صغير بعض مذكّراتها.

   وفي اليوم العاشر من آب تركت المدينة "باريس" مدينة النور والجمال – وقد يملّ الإنسان النور والجمال- ونفضت عنّي نير الحركة الدائمة والضوضاء، واتّجهت إلى محطّة ليون ومرادي الجورا1 (Massif du Jura) فاستعلمت عن قاطع بطاقات الناحية فدللت على طاقته، وبعد أن دفعت له القيمة المطلوبة سألته عن بعض ما أجهل لكنّه أجابني لا أعلم، بصوت يدلّ على الفظاظة، وغلاظة الطبع وفقدان الذوق، عندها أجبته بما يليق بقدره؛ وكانت سيّدة تسمع الحديث امتعضت من جواب الموظّف وعرفت أنّني غير فرنسيّ، فاقتربت منّي وأرشدتني بلطفٍ إلى مطلوبي. وقد تحقّقت بعدها أنّ هذه الغلظة وهذا التوحّش معروف في موظّفي السكك الحديديّة والبريد ودوائر البوليس. هذا الاختلاف في أخلاق الناس تجده في كلّ بلد من بلاد الأرض، فالفرنسيّ لم يبلغ الكمال كما هو شأن العربيّ وغيره من سائر الأمم.

   ركبت القطار السريع الساعة الثانية والنصف مع جماعة من الفرنسيّين والفرنسيّات القاصدين بلاد الاصطياف مثلي، منهم من هو ذاهب إلى "سويسرا" ومنهم من هو ذاهب  إلى "البوركونيو" و "الجورا"، فجرى بنا هذا الحيوان الناريّ الذي يشبه بشكله بعض حيوانات ما قبل الطوفان. وحصل تعارف بين المسافرين وتألّفت في غرفتنا عائلة جديدة من أكثر من جنس وشعب، فيها مهندس وامرأته وخيّاط وامرأته وآنسة مستخدمة في بعض المخازن التجاريّة، وسيّدتان تشتغلان بتدبير المنزل تدلّ أيديهما المكلكلة على العمل اليدويّ الشاقّ. ولم نشعر بطول الطريق، تلفت أنظارنا مناظر الطبيعة من خضرة ومياه وشجر وآكام تارةً ونتجاذب أطراف الأحاديث من سياسيّة واجتماعيّة إلى نسائيّة طورًا أو نلجأ إلى المداعبة والمزاح الحلو الدّال على حسن ذوق الفرنسيّ والفرنسيّة وأنس معشرهما على العموم إذ ليس كلّ فرنسيّ حسن المعشر. والذي يستلفت نظر من كان شرقيًّا مثلي، هو اطّلاع العامل الفرنسيّ والعاملة على شؤون شتّى اجتماعيّة وسياسيّة، فمثل تلك السيّدة من نساء الشرق لا تعرف أن تتكلّم بثلاث كلّمات إذا خرجت من دائرتها، بينما هي كانت تحدّثنا عن الأحزاب السياسيّة، وعن مقتها الشديد للحزبين المتطرّفين: حرامي الملك والشيوعيّين، وفي نظرها أنّهم لم يخلقوا إلّا للمشاغبة لا أكثر ولا أقلّ، وذلك الخيّاط خطيب فصيح في حديثه، كان يروي أحاديث مفكّهة تسلّي المحزون، وهذا يدلّ على أنّ الشعب هنا في مختلف طبقاته وصل إلى مستوى راقٍ لا أعلم إذا كان سيصل إليه شعبنا بعد خمسين سنة من تاريخنا هذا.

   حوالى الساعة الرابعة وصلت إلى "بوليني"، بلدة من ثلاثة آلاف ساكن واقعة في أحد مسطحات "الجورا" وفي إبط جبل، والقسم الشرقيّ منها يدخل في وادي "ڤ" – وادٍ هو للعين نزهة وللقلب فرجة، يجري في وسط نهير ينبع من صدر الوادي الواقع في الجهة الشرقيّة - فإذا أراد المتنزّه أن يخترق هذا الوادي بكلّيته لا يلزمه أكثر من ساعة مسير على القدمين فيصل إلى آخره، وهو أيضًا جبل محاط بثلاثة أسوار، شمالًا وجنوبًا وشرقًا. أحد جانبي الوادي مغروس بالكرمة والجانب الآخر مروج خضراء ترعى فيها البقر الحمر والبيضاء والمبلّقة. وفي أعالي هذين الجانبين أشجار اليرز والشوح كأنّها إكليل يكتنف تلك العراضي الجميلة من كتفي الوادي من الجهة الغربيّة تنكشف سهول "بوركونيا" الرحبة الخضراء يكسوها العشب والغابات بأثواب سندسيّة جميلة.

شهر بوليني

   في المروج والغابات وعلى ضفّتي النهر وأعالي الصخور وفي محادثة بعض الكرّامين والحُرّاث قضيت المعظم من أيامه.

   في الأيّام التي كانت تبدو فيها الشمس من وراء حجاب الغيوم، وتنشر أشعّتها على السهول وتنسل خيوطها الذهبيّة الفضّيّة، في أشجار الشوح والسنديان والكستناء والكرمة، كنت أخرج في البكور، يقابل وجهي تلك الغزالة، وحرارتها المعتدلة تمتزج بنسيم الصباح البارد البليل، فيخلق نسيمًا جديدًا، هو خمرة القلب وصوت السواقي وحفيف أوراق الاغصان اللطيف وزغردة الطيور المبتهجة مثلي بجمال الطبيعة، وانعكاس أشعّة الشمس على قطرات الندى المبلّلة العشب والورق، ترمي سهامًا لا تكاد تدركها العين، كلّ هذا يُسكر الناظر إليها.

   في المرج كنت أتّخذ العشب الغزير الرفخ فراشًا لي في عدّة ساعات من نهاري وكان سلوتي كتابي تارة ومراقبة النحلة والفراشة والقبّوط طورًا، وقطف بعض الزهور تارة أخرى والبقر النهمة تهرش العشب هرشًا كأنّها تخاف أن يهرب من أمامها فلا يبقى لها سبيل أن تملأ كرشها، فيا لها من حيوان شره أبله، هي تسعى وتجدّ لتسمن وتملأ ضرعها حليبًا لصغيرها، وهي تقوم بواجب طبيعيّ لا إرادة لها ولا دافع عقليّ، ولو أدركت أنّها تشقى لغيرها لشردت وتاهت في البراري لتتخلّص من جور هذا الحيوان الظالم الذي لا يُعدّ نهم البقر عند جشعه نهمًا، الذي يستدرّ لبنها ويحرمه عجلها ويسنّ سكّينه لينحرها إقرارًا بفضلها ومعرفة بجميلها.

   في الغاب عند الاستراحة كانت أشجار الشوح - التي يتفوّق جمالها واستقامتها وحسن اتّساقها على جميع أنواع الشجر- مظلّتي، وكانت أوراقها الخيطيّة وسحر هندستها مسرحًا لناظري، يقال في شرقنا فتاة كالنخلة في طولها، ولو كان عندنا شجرة الشوح لقالوا قامتها كشجرة الشوح.

   المتنزه في غابات هذه البلاد لا يرضي فقط عينيه بل معدته أيضًا، ففيها ترى أثمّارًا برّيّة شهيّة منها الفراز والفرمبواز2 والتفّاح حتّى الكرمة وهي ملك الجميع، فكأنّ الطبيعة لم تسخط على سكان هذه البلاد فلم تعطهم إلّا كلّ شيء نافع لهم، فحيثمّا اتّجهوا ترحّب بهم أمّهم الأرض وترزقهم من خيراتها، فسهولهم خصبة وغاباتهم وجبالهم غنيّة، ومن عرف جبال سوريا داخلها وساحلها أدرك الفرق الكبير؛ ففي جبالنا ينبت الشوك: الجربان والعجرم والخصوان والدريص والبلّان والطيّون، وفلّاحنا لا يحصل على خبزه ومعيشته الضروريّة القفرة إلّا بشقّ النفس وبذل قسم من دمه. وبلادنا بلاد مقدّسة وبلادهم بلاد الكفر، فبقداستها نرضى ومن قداستها نعيش، فما أحلى الرضى والتسليم وما أحلى القناعة! فياليتكِ يا أرضنا لم تعرفي القدسيّة ويا ليت أقدام القدّيسين والأنبياء لم تكثر في جنباتك! ألأنّك مقدّسة قد خُلقت أرضك جرداء فقيرة؟ ما هذا التناقض وما السرّ في ذلك؟ إنّنا نقتنع بك ونسلّم ونعيش بين صخورك جذلين، ولكن أين قدّيسوك يدافعون عنك ويردّون غزوات الغريب الذي لم تكفه أرضه الخصبة حتّى أتى يمتصّ ما لديك من الشيء القليل.

   يا أرضنا خلقنا ضعفاء عاجزين أن نحافظ على ما وهبتنا، فهل أنبياؤك ناسون أبناءَك إلى الأبد؟ أم عن قريب سيفتحون أعينهم؟ فحينئذ تأخذهم الدهشة وتدفعهم القوّة السحريّة، ليجابهوا الغزاة الطمّاعين ويخاطبوهم: انصرفوا إلى أرضكم فهي كفايةٌ لكم، فاهتمّوا بها وبشؤون شعبكم واتركونا وشأننا مع رعيّتنا، وسنسهر على مصالحهم ونرفع مستواهم إلى مستوى غيرهم من بني آدم. وإذا لم تصغوا إلى كلامنا المعقول هذا فإنّنا حينئذ، وبملء الأسف، سنظهر قوّتنا المدفونة في خزائن أبينا فهي كافية لأن تحرجكم ثمّ تخرجكم. إنّ طمعكم  وشهواتكم الوحشيّة سيُقضى عليهما؛ وبئس العاقبة عاقبة الجور!

   أنا قليل الأمل في الظفر وإن كان الشقاق الذي ينخر في العظام مرضٌ ولكنّه لن يدوم إلى الأبد فلكلّ شيء حدّ محدود، ولن يكون النجاح مكفولًا إلّا بالاتّحاد وجمع الرايات تحت علم واحد، فإذا تمّ هذا تحقّق النصر يا بلاد الشرق! 

في 7 أيلول

   كتبت لك في الأمس وأنا جالس على مقعد في إحدى غابات "بوليني"، وضعته البلديّة لراحة المتنزّهين والمصطافين، أما اليوم فأكتبُ لك مُسندًا دفتري إلى طاولةٍ على سُطيحة أمام البيت الذي أسكن فيه. هو يوم جميل أبهى من أيّام الربيع في سوريا. الشمس ساطعة والهواء لطيف، ليس بالبارد ولا بالحارّ بل خير ما يكون من الاعتدال. فأنا أشعر الآن براحة وصفاء وبهجة قلب عكس الأيام الشائنة المظلمة القاتمة الرطبة وهي كثيرة في هذه البلاد. أمامي منحدر الوادي تكسوه أشجار الكرمة والشوح والسنديان بثوب سندسيّ جميل، تزيده أشعّة الشمس بهاءً ورونقًا، فعيني جذلة قريرة وقلبي نشوان من خمرة الطبيعة الحلوة.

   أرى هناك على مسافة قريبة امرأة تهزّ شجرة التفاح الدانية القطاف ثمّ تنحني بقامتها الهيفاء لتلتقط الأثمار اليانعة. وهناك الكرّام في كرمه يرقب دواليه ويفحص عنبه، فعن قريب سيأتي موسم القطاف فتبسم ابنة الكرمة عن ثغرها فيرشفها الكرّام وهو جذلان، وهذه الابنة أشهر ما تنتج الأرض للفلّاح الفرنسيّ، فهي ماء حياته وبدل ماء الينبوع وهي مؤونة البيت المكرّمة الجليلة الشأن، هي أعزّ من العشيقة والزوجة، لله درّها ما أبهاها في عينيه وما أشرق وجهها! وهو يعزّها بقدر ما يمقتها الفلّاح الشرقيّ. فكم من مرّة سمعت الفلّاحين يتحادثون في شأن الكرمة المقبلة هذه السنة وجوههم تضحك عند ذكر الحانة المعشوقة،

   البيت الذي أسكنه بيت متواضع مرتّب ترتيبًا حسنًا على حافة ساقية الوادي وخرير الماء لا تملّه أذني. ربّ البيت يا له من ربّ، لله درّه ما أبخله وأشحّه! أرمل منذ سنتين له ابنة تدرس فنّ التمريض والتربية في باريس، هي وريثة البيت من أمّها المتوفّية؛ وقد درست هذا الرجل درسًا مدقّقًا وأطلعني على كلّ دخيلة في تاريخ حياته وحياة زوجته، ولو سمعه شرقيّ لم يعرف شيئًا عن الغرب لقال يا للخجل! أهكذا تتألّف العائلة الغربيّة؟

   اسم هذا الرجل "لاغراند" ومعناها بالعربيّة "الكبير" ولو سمّي الصغير لكان أنسب للمسمّى. اقترن بفتاة في سنّ السادسة والعشرين وهو الآن ابن خمسين متقاعد يتقاضى معاشًا من سكّة حديد باريس "ليون" المتوسّط. من هي امرأته؟ بنت السيد "لابيار" وأبوها الحقيقيّ رجل اسمه "سيار" خطبها "لاغراند" من "لابيار". الذي اعترف أنّها ليست ابنته ولكنّه تبنّاها فزوّجها للسيّد الكريم – لا سمح الله - "لا كرامة "-. مات الأب الوهميّ "لابيار" فأتت الأم الحقيقيّة وابنتها وسكنتا في بيت "سيار" الأب الحقيقيّ. لم يتأخّر "سيار" بعد ذلك حتّى مات فأوصى تركته التي منها هذا البيت الذي أسكنه، إلى ابنته السيّدة "لاغراند". وقد أخبرني بعض الجيران أنّه مع كونها ابنة زنىً فهي امرأة فاضلة ذات أخلاق ممتازة، صادقة مع زوجها، ربّت ابنتها تربية صالحة وهذّبتها وأرسلتها إلى المدارس الثانويّة وصرفت عليها المال بالرّغم من رفض الأب اليابس اليد والجاف ماء الوجه. فهذه الأم لاقت أمرَّ العذاب من زوجها البخيل، شديد التقتير الذي لا يبذل المال إلّا لضرورة العيش، ومرضت من شدّة الحزن والضعف والجوع وماتت ضحيّة جشع وبخل هذا الحيوان الدنيء الذي تعرّفتُ عليه، فكانت هذه المعرفة أمثولة اختباريّة مفيدة.

   أتعرف "هرباكن" بخيل الأديب الكبير "موليير"؟ "هرباكن" يصلح أن يكون تلميذًا لحضرة السيد "لاغراند"، البخل في أتمّ معانيه، وقد لاحظته ملاحظة دقيقة وعدّة مرار، وكان هو بنفسه يهيّء لي وله طعام العشاء، وكنت أرافقه إلى السوق، يشتري ما أحتاجه من المطعم وما أشتهيه، ولو كان مكلّفًا وحده بالشراء لأصابني جوعًا ولا شكّ.

   أبخل من كلب وأحرص من قطّ ممسك بفمه قطعة لحمة سرقها من دكّان لحّام. إذا صرف النحاسة عدّ دراهمه ساعة، وإذا تكرّمت وناولته فلسًا يبسم ويفيض لسانه فصاحة وبراعة.

   منّان كأنّه دجاجة بيّاضة، إذا صرف قرشًا فوق خمس فرنكات في يومه ركب الهمّ ركابه، وإذا طرق متسوّل محتاج بابه طرده مكشّرًا عليه نابه. تراه على كرسيّه فإذا سمع حركة جفل وبدا عليه شيء من الخبل، فتنتصب أذناه كأذنيّ حمار وجل، ويصغي إصغاء فأرة خرجت من وكرها متجسّسة لتشنّ على مخزن المآكلّ غارة، كأنّ جماعة من اللصوص تترقّبه لتسرق ماله وذهبه. إذا مشى يتجنّب الأرض الجصّة والحجارة ويمشي على مهله لكي لا يهرأ نعله، فقال لي يومًا على الطريق: تعالَ نمشِ على الطريق المزفّتة فهي أوفر لحذائك فقلت له: اتركني فلا أسير تحت لوائك ولعن الله اقتصادك الممقوت، فخيرٌ لك من العيش مريضًا بداء البخل أن تطويك الأرض وتموت. فهزىء من عدم خبرتي في الحياة وقال: ستندم على تبذيرك في وقت قريب آتٍ.

   يعيش وحيدًا حزين القلب لا يقتني لا هرّ ولا كلّب، فإذا قلت له إنّ الكلّب في البيت لك سلوى قال: آه والله لا هو بلوى، ما يأكله يكفيني، الفلوس آه الفلوس. يقول بالفرنسيّة والكلّاَتْ والكلّاتْ من أين آتي بها؟ وهو يتقاضى سبع مائة فرنك شهريًّا.

   إذا أشعلت الكهرباء قبل وقوع الحلك في المساء، فكأنّ نارًا حامية تحرقه في الأحشاء وكأنّه أصيب ببلاء فيقول: آه ثمّن الكهرباء، آه الكلّات آه الكلّات، كم سأدفع في نهاية الشهر من الفلوس! أفٍ! فهو في وسواس دائم لا يهذي إلّا بالدرهم، وإذا قبض القرش فهو لقلبه خير مرهم، فيتنفّس الصعداء ويبسم ويعود إلى وجهه شيء من الماء لأنّ جلده جاف. لا يمكن للبرغوث أن ينال منه مصّة ولو قرصه ألف قرصة.

   بقيت شهرًا في داره لم أر مخلوقًا تجاوز عتبتها، لا صديقه ولا جاره، فكأنّه في هذه البلدة ناسك، غير أنّه عن ذكر الصلاة والقنوت ممسك أو ماسك، يكتب إلى ابنته يتوعّدها وبتركه إيّاها يتهدّدها، ثمّ يغريها ببيع الدار وما فيها، لكي يأكل قسمًا من الثمن، والابنة قاصرة لم تبلغ الإحدى والعشرين بعد. فهل رأيت أرقّ قلبًا من هذا الأب وأشفق؟!

    هو يفتّش عن امرأة تستتر وإيّاه، فإذا قبلته فقل ولا شكّ، حفرت قبرها يداها ولاقت بلواها!

    هو حائر كالفراشة لا تعرف أين المدخل ولا أين المخرج. النساء كثيرات من يردن التزوّج، فهو لا يعدمهنّ، ولكن آه والكلّات!

   كانت شركة زواج قد هدته إلى عدّة نساء وعدّدت له صفاتهنَّ وطلبت منه دفع ثمن مائة فرنكٍ! فكأنّ هذا الطلب صعقة على فؤاده! فعدل عن هذه الشركة إلى جريدة تنشر إعلانات كثيرة من نساء يرغبن في الزواج، فتراه منكبًّا على هذه النشرة الشهريّة، مبحلقًا بعينيه ليقع على صفات امرأة تلائمه وتطابق أخلاقها أخلاقه، وهيهات! فيكاتبها ويعرض عليها الزواج بواسطة الجريدة. فهل تربح هذه التجارة أم يعود يجرّ أذيال الخيبة والخسارة؟ ستعلم!

بوليني في 8 أيلول 1934

   هذه الأيّام هي أجمل ما تهبه الشمس الدافئة والأرض الكريمة للمخلوقات الحيوانيّة والنباتيّة التي تراها مبتهجة باسمة، وأنا لا أشذّ عن هذه الكائنات، فقلبي يرقص حبورًا، ومعبود عيني هو جمال الطبيعة.

   لا أعرف الملل في هذه الأيام البهيّة، فقد ذهبت في الأمس إلى حقول الكرمة والمروج وكانت سلوتي محادثة الكرّامين وراعيات الماشية، فالنساء هنا يطلقن البقر إلى المراعي ويحرسنها.

   الكرّام في كرمه يبسم لعناقيد العنب الناضجة،لأنّ من دمها ستسقيه وتفرح قلبه في الشتاء. الفلّاح همّه حصانه الذي يعزّه ومحراثه الذي يشقّ به أرضه، تراه يحلش القشّ ويذريها معرّضة لحرارة الشمس لتجفّ، فيجمعها في عجلته ويجرّها حصانه إلى الأهراء، فهي مؤونة طرشه في الخريف والشتاء.

   لا يعرف الفلّاح إلّا لغة الأرض والمحراث والكرمة والخمرة والكأس، فكلامه كطبعه خالٍ من التزويق والتكلّف والتنميق، يدلّ على نفسه البسيطة الساذجة كنفس الحمل الوديع. لا يعرف أن يحدّثك يا أخي بأحاديث السياسة، فهو كالفلّاح العربيّ وككلّ فلّاح في الأرض، لا يهمّه إلّا حقله وعمله، إلّا أنّ الفلّاح هنا مثل كلّ عامل متنبّه يقظ ذو اطّلاع على كثير من الأمور الاجتماعيّة أكثر من فلّاحنا، وهو عالي النفس رفيع الهمّة ينظر إلى غيره من طبقات الناس بالمرقب الذي ينظر بها إلى شخصه، فلا يرى نفسه أدنى من غيره من الناس ولا يحتمل أن يمتهن ويثور على من يجرّب تحقيره، فالموظّف في نظره كغيره من الناس لا ينظر إليه بعين الإعجاب والخشوع، ولا يدخل في خلده أنّ نفحة سماويّة أعطته قوّة عجيبة وحقّ السيطرة على غيره، بل هو خادم الشعب يهتمّ بشؤونه فيقوم الشعب بنفقته - هو ينظر بعين البغض إلى كثير من الأغنياء والموظّفين الكبار لأنّهم يفرّطون بما وكلّوا إليه ويسرقون كثيرًا من أموال العامّة، ويحرّضون الناس ويدفعونهم إلى بغض الأجنبيّ وإثارة الحروب – فهو متيقّن أنّ الفلّاح والعامل لا يريدان حربًا فبعملهما يقنعان ومن ثمار كدّهما يعيشان وإنّما من يسبّب الحرب هم رجال المطامع وتجّار المدافع وأصحاب الغايات وطلّاب الشهرة العسكريّة والمجد الفارغ. قد سمعت منذ بضعة أيّام في ساحة هذه البلدة بعض العمّال يتحدّثون فاستلفت سمعي كلام أحدهم وهو يدلّ على سذاجة وصدق ولا غاية وراءَه.

“sous les signes d’une autorité militaire on conduit les gens à ľ obattoir :sachez bien qu’ils sont  plus bêtes que des cochons” 

                                    يوسف س. نويهض

 

- الجورا: سلسلة جبال تقع بين فرنسا وسويسرا وألمانيا.              1

- الفرمبواز: التوت البرّيّ.2